وكالة مهر للأنباء ـــ آية الله رمضاني: في الحقيقة٬ إنّنا بحاجة فعلاً إلى الفلسفة لكي نتواصل فيما بيننا٬ و ما من بديل يحلّ محلّها. و بمقدورنا أن نزعم بأن لا تواصل سليم بدون الفلسفة. و لكن كيف لنا أن نبرهن على هذا الزعم؟ للبرهنة على ذلك لا بدّ أولاً أن نضع ثلاث مقدمات أمام القارئ الكريم .
المقدمة الأولى٬ أن نعلم بأنّ الفلسفة بحث حر للوصول إلى الحق٬ بعيداً عن أيّ تحديد أو نزعة محدّدة سلفاً. في الحقيقة٬ إنّ الفلسفة التي يعبّر عنها بالحكمة أيضاً٬ عبارة عن الاطلاع على الينبغيات و اللاينبغيات و الوجود و العدم في شقّي الفلسفة النظري و العملي٬ أو الحكمة النظرية و الحكمة العملية من قبل العقل النظري و العقل العملي.
في الفلسفة يطرح السؤال بالاستناد إلى العقلانية و التدبّر و التفكير٬ و يأخذ البحث مجراه دون أن تتّضح مسبقاً أيّ إجابة أو نتيجة محدّدة٬ و هذا هو جوهر الفلسفة في مقابل علم الكلام الذي يتّخذ أوّلاً و قبل كل شيء موقفاً معروفاً منحازاً إلى دين خاص أو عقيدة بعينها؛ بناءً عليه٬ و في إطار التمييز بين الفلسفة و علم الكلام٬ فإنّ أحد الفوارق الرئيسية بينهما يكمن في أنّنا نعرف سلفاً ماذا يريد المتكلّم٬ بينما في الفلسفة لا يتّضح ابتداءً أيّ اتجاه أو التزام أو نتيجة محدّدة٬ عدا أنّ الهدف هو بلوغ الحقيقة فقط لا غير٬ و بالاتكاء إلى العقلانية المحضة. لهذا تجد بعض الأشخاص الذين يعترضون على الفلسفة يقولون خطأً: الفلسفة تعني اللادينية أو عدم الالتزام بالدين. و كذلك يقولون: الدين غير مهم أبداً بالنسبة للفلاسفة٬ و ليس هو وجهتهم. و استناداً إلى هذا التصوّر الخاطئ تجدهم يرسمون خطاً أحمراً حول الفلسفة. بيد أنّ واقع الأمر ليس كما يصوّره المنتقدون٬ بل إنّ موقف الفيلسوف في البداية إزاء أيّ دين هو لا بشرط و ليس بشرط لا. و عادةً في خضم النقاش لا يتمّ التفريق٬ للأسف٬ بين هذين الأمرين فتختلط الأشياء على البعض إذ يعتقد أنّ الفلسفة هي بشرط لا من الدين٬ بينما هي – في البداية فقط و ليس حتى النهاية- لا بشرط٬ و المسافة بين لا بشرط و بشرط لا كالمسافة بين السماء و الأرض.
يستحضر هذا الكلام نزاعاً أثاره الشيخ الرئيس في كتابه الشفاء حول الوجود الطبيعي الكلي في الظرف الخارجي٬ فالإشراقيون لا يؤمنون بالوجود الطبيعي الكلي في الخارج٬ بينما يعتقد به المشاؤون. و السبب في ذلك يعود كذلك إلى التفريق أو الخلط بين الحيثيتين «بشرط لا» و «لا بشرط». فعلى الرغم من أنّه (ابن سينا) يناقش بصورة متقنة و استدلالية هذا الموضوع٬ لكنّه أحياناً يخرج عن الحدود المألوفة في الحوار و النقاش٬ مثلاً في بداية ردّه على المشكّكين في الوجود الطبيعي الكلي في الخارج و دحض شبهاتهم يقول: على الرغم من أنّه تشكيك سخيف و واهٍ (يندر أن نجد عبارات للشيخ بهذا المستوى) و لكن نظراً إلى أنّ هذه الشبهات مطروحة من قبل أشخاص تمسّحوا بالفلسفة لا أنّهم فلاسفة و تشرّبوا المباحث الفلسفية، كأن تمسح لقمة الخبز باللبن و تأكلها٬ في هذه الحالة تكون لقمة الخبز ممسوحة باللبن لا أنّها تشرّبت اللبن و هضمته. إذن٬ فهو يقول على الرغم من أنّ هذه الشبهة سخيفة و واهية٬ و لكن لا مناص من التدخّل في النقاش لرفعها لأنّها مطروحة من قبل أشخاص من هذا القبيل٬ و ربما احتُسبت على الفلسفة و ترسّخت في النفوس. و في الختام يقول٬ من أجل رفع هذه الشبهة لا بدّ أن تفهم الفرق بين بشرط لا و لا بشرط. فنحن نقبل بالكلي الطبيعي في الخارج و نؤيّد أن معناه ليس أنّ الكلي الطبيعي بشرط لا موجود من جميع اللواحق و العوارض و الخصوصيات في الخارج٬ لا هذا ليس صحيحاً٬ و إنّما المقصود أنّ طبيعة لا بشرط موجودة في الخارج٬ و الـ لا بشرط يجتمع مع ألف شرط.
والحال٬ نقول بالنسبة للقضية التي نحن بصدد مناقشتها: بادئ ذي بدء٬ الفيلسوف لا بشرط من كل نزعة أو انتماء؛ أي إنّه يقول ليس لديّ حالياً أيّ نزعة أو انتماء٬ و أبدأ البحث و النقاش بعد طرح كلّ الانتماءات و التعيّنات جانباً٬ و بعد انتهاء الحجاج قد نصل إلى نفس النتيجة التي تتفق مع وجهة نظر دين معيّن. لذا٬ فالذين لديهم حساسية إزاء الدين و الشريعة٬ لا ينبغي لهم هنا أن يتحسّسوا من هذا الموقف بلا مبرّر و يقولوا بأنّ الفيلسوف متجرّد من كلّ التزام بالدين. لأنّه في الحقيقة لا توجد فلسفة بشرط لا من الدين.
لقد سمعت شخصياً قولاً صريحاً من لسان بعض الناقدين المحترمين بأنّ الفلسفة معناها اللادينية! و أنّ الفلاسفة هم الذين يصرّون و يؤكّدون على أنّنا لا نحمل أيّ التزام أو تعهّد إزاء الدين. و لو كان هؤلاء الأعزاء قد عرفوا الفرق بين بشرط لا و لا بشرط لتبيّن لهم أنّ التهمة التي يرمون الفلاسفة بها لا أساس لها من الصحة. إذن٬ بالاستناد إلى المقدمة الأولى فالفلسفة تعني بحثاً حرّاً تماماً و مستنداً إلى العقلانية المحضة.
أمّا في المقدمة الثانية فنقول إنّ للتعاطي و التواصل مقومات و عناصر. و أهم هذه المقومات اللغة المشتركة و التوافق اللساني. إذا لم تجمع شخصان لغة مشتركة٬ يكون التواصل و التعاطي بينهما متعذراً. و التواصل على أيّ أساس و ما هو مداره ؟ كيف لشخصين لا يفهم أحدهما لغة الآخر أن يتواصلا؟ لو فرضنا أنّ الأول يتحدّث الفارسية و الثاني يتحدّث الإنجليزية٬ فلا الأول يفهم مفردات الثاني و لا الثاني يفهم مفردات الأول. في هذه الحالة٬ لن يكون هناك تواصل بين الطرفين٬ لأنّهما لا يفقهان لغة بعضهما البعض. إذن٬ اللغة المشتركة تعدّ إحدى أهم المقومات في التواصل و التبادل الثقافي؛ كانت هذه المقدمة الثانية.
أمّا في المقدمة الثالثة٬ أودّ أن أعرض على حضراتكم ما يلي: تعتبر العقلانية القاسم المشترك بين الناس٬ شرقيين كانوا أم غربيين٬ مسلمين أم غير مسلمين٬ كفاراً أم مؤمنين٬ فسّاقاً أم ورعين٬ و هذه العقلانية هي المظلة التي يستظلّ تحت خيمتها الجميع٬ و كلّهم شركاء في هذا الخصوص٬ حتى و إن تباينوا في درجات العقلانية؛ كأن يكون أحدهم في القمة و آخر في القعر٬ و ثالث في المراحل الوسطى للعقلانية؛ و لكن٬ في نفس الوقت٬ هناك مبدأ واحد ينصاع له الجميع٬ و قاعدة موحدة يتفق عليها الجميع و هي العقلانية العامة.
والحال٬ في ضوء هذه المقدمات الثلاث نقول: إذا كانت الفلسفة هي العلم الوحيد الذي ينبني على العقلانية و الفكر دون أيّ انتماء و لا بشرط من أيّ تعيّن٬ و إذا كان التواصل متعذّراً إلّا بوجود لغة مشتركة٬ و إذا كانت اللغة المشتركة بين أفراد البشر كافة هي العقل و الفكر٬ فهل بالإمكان أن ننكر وجوب الفلسفة في أجواء التواصل الثقافي٬ أو نجد بديلاً لها؟
جوابنا على ذلك هو: إذا سلّمنا بالمقدمات المذكورة٬ فإنّ الجواب سيكون بالنفي القاطع٬ فالفلسفة ضرورية في التواصل الثقافي و لا شيء يحلّ محلّها. و هنا قد يقول البعض٬ ألا يعني هذا فقر الدين و الآيات و الروايات و حاجتها للفلسفة؟ ألا تربطون٬ في هذه الحالة٬ الدين بالفلسفة؟ سيكون هذا هو معنى الكلام أعلاه بالتأكيد٬ في حال كانت للدين حقيقة مستقلة و ذاتية.
جواباً على ذلك نقول: ليس معنى كلامنا أنّ الدين و الآيات و الروايات فقيرة٬ بل على العكس تماماً٬ نحن نعتقد أنّ الآيات و الروايات وضعت في متناول البشرية مادة و مقدمة و نتيجة أصيلة و صافية و نقية. إنّنا نعتقد دونما شائبة أو شبهة و نقولها بملء أشداقنا أنّ الدين الإسلامي الحنيف و لا سيّما في قراءته الشيعية٬ لا يعتوره أيّ نقص في هذه النواحي٬ و هذه المدرسة قد زوّدت الإنسانية بتعاليم أصيلة و نقية٬ و مواد صائبة و سليمة دونما أيّ خلل أو عوار. و من ناحية أخرى٬ نعتقد أنّ الدين يحثّ البشرية جمعاء على ضرورة توظيف الحواس و الفطرة و العقل – و كل هذه مواهب إلهية – إلى جانب هذه المواد و الأشياء٬ و تنظيمها و الاستنباط منها و قد أودع الله تعالى البشر طريقة استنباطها و تنظيمها٬ فلا مشكلة في هذا الجانب.
يقول العلامة الطباطبائي في تفسيره النفيس الميزان: ما انفك القرآن يحثّ العباد على التدبّر و التفكّر و التعقّل٬ لكنّه لم يذكر و لا مرة واحدة كيف نتعقّل أو نتفكّر٬ لأنّ الله تبارك و تعالى خلق في وجود الإنسان طريقة التفكّر و الاستنتاج بيد التكوين و لسان الفطرة. لذا٬ فلا حاجة أن يقول له أحد كيف يتفكّر أو يتعقّل. و يتابع العلامة كلامه قائلاً: إذا علم الإنسان أنّ كل «أ» هو «ب» و أنّ كل «ب» هو «ج»، فإنّه سوف ينتقل بشكل طبيعي و فطري من المقدمة الأولى إلى المقدمة الثانية و هي أنّ كل «أ» هو «ج». و لا بأس هنا أن نقول بأنّ أحد رموز المدرسة التفكيكية كان قد أكّد بأنّنا أهل القرآن لا حاجة بنا إلى المنطق الأرسطي و اليوناني لكي نفكر. لأنّ القرآن يتضمّن منطقاً خاصاً به في التفكير٬ و بالتالي لا يحتاج لهذه الأمور.
ما أريد قوله هنا أنّ هذا الكلام لا يعدو عن كونه ادّعاءً جميلاً٬ و لكن ألا يحقّ لنا أن نتساءل: ما هو هذا المنطق الخاص الذي تفرّد به القرآن و لا يوجد في مكان آخر و ما هي طبيعته؟ نرجو أن تبيّن لنا ذلك حتى نستفيد منكم!
ليس بالادعاءات المحضة تُحلّ المشاكل. هل بإمكانك أن تطعن في المعادلة التالية التي تقول إذا عرفنا أنّ كل «أ» يساوي «ب» و كل «ب» يساوي «ج»، إذن٬ كل «أ» يساوي «ج»؟ هل تحسب هذه الطريقة مناقضة لطريقة القرآن٬ و عليه يجب إيجاد بديل لها؟ أم إنّ تغيير هذه المعادلة و هذه الطريقة أمر محال. نعم٬ قد تقع بعض المغالطات٬ و عندما نتابع القضية يتبيّن لنا أنّ السبب هو عدم مراعاة شروط الاستنتاج و الاستدلال٬ و أنّ الصغرى ليست صغرى٬ أو الكبرى ليست كبرى٬ أو الحد الأوسط ليس كذلك٬ و ثمّة مغالطات وقعت و لا بدّ من الكشف عنها؛ أما إذا عرفنا حقاً و دون أيّ مواربة أنّ كل «أ» يساوي «ب» و كذلك كل «ب» يساوي «ج»، لا بدّ حينئذ أن نقبل دون شك أنّ كل «أ» يساوي «ج»، فهذه الطريقة لا تقبل النقاش٬ لأنّ الله تعالى أودعها ذواتنا و فِطَرنا و وجودنا٬ و قام المناطقة بإعدادها و تنظيمها على شكل علم و وضعوها في متناول البشر.
جاء في المنقولات أنّ ملا قطب قام بتدريس ولده دورة في علم المنطق٬ و بعد الانتهاء منها قال له اذهب إلى السوق لتر ما مدى استعمال الناس لهذا المنطق في معاملاتهم اليومية، فذهب الولد كما طلب منه والده٬ ثم عاد ليقول: الناس منهمكون بشؤونهم اليومية و لا حاجة بهم لما تعلّمناه. فقال قطب لولده: يبدو أنّك لم تتعلم المنطق بعد. فعاد من جديد ليدرّسه المنطق للمرة الثانية٬ ثم بعد ذلك قال له: اذهب الآن و انظر ماذا يفعل الناس. فذهب ولده للمرة الثانية إلى السوق٬ لكنّه عندما عاد هذه المرة قال: يتداول الناس كلامنا هذا تلقائياً دون أن يتعلّموا المصطلحات. فمثلاً ذهبت سيدة إلى البزّاز و سألته إن كان لديه أقمشة جيدة؟ فأجابها البزّاز: و كيف تكون غير جيدة و هي من إنتاج المصنع الفلاني للأنسجة. فردّت عليه السيدة بالقول: إذا كان الأمر كذلك٬ هلا بعتني قطعة من عشرة أمتار. هنا نلاحظ تبلور استنتاج منطقي بصورة فطرية و تلقائية. و كأنّه عندما قيل أنّ الأقمشة من إنتاج المصنع الفلاني٬ و أنّ كل إنتاج المصنع من الأقمشة جيد٬ إذن٬ الأقمشة الموجودة جيدة. هذا في حدّ ذاته عبارة عن قياس منطقي يبرهن على جودة القماش. و بعد ذلك كأنّه قيل كل قماش جيد يستأهل أن يُشترى. و عليه يجب شراء هذا القماش. و هذا قياس ثانٍ و استنتاج آخر.
يتّضح لنا أنّ هذا المنطق يعتمل في نفوسنا بصورة تلقائية و دون استخدام المصطلحات المنطقية٬ و أنّ المنطق و العقلانية و توظيف العقل عبارة عن مسألة بشرية عامة يعتدّ بها في أنحاء العالم الإنساني٬ و نريد بفضل هذه الموهبة الإلهية و الفطرية أن نعرض نتاجات و تعاليم ديننا على العالم٬ و لا سبيل غير هذا لتحقيق هدفنا. و إذا أردتم أن تستبدلوا المنطق و الفلسفة بشيء آخر٬ فإنّ هذا الشيء هو الفلسفة و المنطق حتماً٬ لكنّكم خلعتم عليهما مسمّيات أخرى سهواً٬ أو أنّ ذلك البديل سيعجز عن الوفاء بالمهمة الموكلة إليه. لأنّ ميزة العقلانية هي عدم التبعية و الـ لا بشرط و هما أمران لهما بالغ الأثر في تحقيق المقاصد المنشودة الخاصة بالفلسفة٬ ذلك أنّ سائر الفنون و الاختصاصات أما أن تكون بشرط شيء أو بشرط لا٬ و كل منهما يعجز عن تحقيق الأهداف المرجوة. لذا أقولها بكل صراحة٬ بأنّ الفلسفة تلعب دوراً جوهرياً في التواصل بين الثقافات٬ و ليس بمقدورنا التغاضي عن هذا الدور بسبب بعض الأفكار و التصوّرات الخاطئة./انتهى/
تعليقك