وأفادت وكالة مهر للأنباء، انه كتب السيد عباس عراقجي في مذكرة في إشارة إلى اللقاء الأخير بين رئيسي الولايات المتحدة وأوكرانيا: "السياسة ليست لعبة بسيطة". في بعض الأحيان، يمكن لاجتماع رسمي أن يكشف أكثر من مئات التصريحات الدبلوماسية حول الحقائق المخفية داخل السلطة.
لم يكن الخلاف الأخير في البيت الأبيض بين دونالد ترامب، وزيلينسكي مجرد خلاف عادي؛ لقد كشف هذا الحدث عن تصدعات عميقة تتسع داخل النظام الدولي.
هناك الكثير من التكهنات حول هذه الحادثة. هل تم التخطيط لهذا الصراع عمدا؟ أم أن الأمر خرج عن السيطرة؟ فهل كان الهدف إرسال رسائل داخلية وخارجية، أم كان مؤشرا على فشل آليات التنسيق في السياسة الخارجية الأميركية؟ ومن المؤكد أن هذه الحادثة قدمت صورة لعالم فوضوي حيث لم تعد القرارات تُتخذ في فراغ.
الأزمة في قلب القوة الغربية
منذ سنوات، عملت واشنطن على ترسيخ مكانتها كمركز لصنع القرار في العالم الغربي. ولكن اليوم لم تعد هذه المركزية بلا منازع. ويشكل الخلاف الذي اندلع في قلب البيت الأبيض رمزاً للترددات الاستراتيجية، وعدم اليقين الدبلوماسي، والخلافات التي لم يتم حلها داخل الكتلة الغربية.
دخلت إدارة ترامب ساحة السياسة العالمية تحت شعار استعادة "السلام السريع". الوعد الذي اعتبره كثيرون متفائلاً أكثر من اللازم أصبح الآن يشكل ضغطاً مضاعفاً على الرئيس الأميركي ونائبه. ويواجه ترامب ونائبه تحديا حقيقيا: هل سيتمكنان من الوفاء بالتزاماتهما في ظل وضع تتضمن فيه الحرب مصالح العديد من الجهات الفاعلة؟
أوكرانيا؛ من التبعية إلى التمرد
ومن الرسائل المهمة التي يحملها هذا النزاع هو التغير في موقع أوكرانيا في معادلة القوة. في الأيام الأولى للحرب، اعتمد زيلينسكي على المساعدات الغربية أكثر من أي وقت مضى. لكن اليوم، في قلب البيت الأبيض، يقف أمام رئيس الولايات المتحدة ويقدم رداً حاداً.
وهذه إشارة إلى أن حتى الدول التي تلقت الدعم من واشنطن لسنوات لم تعد تقبل أن ينظر إليها باستخفاف. لقد أظهرت أوكرانيا الآن، سواء كلاعب مستقل أو كبيادق على رقعة شطرنج القوى العالمية، أن حتى الحلفاء الصغار يدفعون ثمنًا للحفاظ على كرامتهم ومكانتهم.
أوروبا وظل الانقسامات الجديدة
والسؤال الآخر يتعلق برد أوروبا. هل ستبقى القارة موحدة في دعم أوكرانيا؟ أم أن هذا النزاع سيكشف عن انقسامات أعمق على الجبهة الغربية؟ وكانت فرنسا وألمانيا وحلفاء أوروبيون آخرون قد اتخذوا في البداية موقفا أكثر حذرا تجاه حرب أوكرانيا. كانت الاختلافات في سياسات الدفاع والأمن موجودة منذ البداية.
والآن، مع الصدام اللفظي بين زعماء البيت الأبيض وزيلينسكي، أصبحت هذه الاختلافات واضحة تماما. والآن يواجه الأوروبيون، الذين كانوا أكثر حذراً بشأن التطورات في أوروبا الشرقية منذ البداية، سؤالاً جديداً: هل لا تزال واشنطن تتمتع بالقوة والإرادة لقيادة جبهة موحدة في الغرب؟
موسكو؛ ستبقى ناظرة ام هي المصممة
وقد حظي هذا الحدث بمتابعة وثيقة في موسكو. لقد اعتقدت روسيا دائمًا أن التحالف الغربي هش ومتوتر. بالنسبة للكرملين، فإن الخلاف الأخير في البيت الأبيض يشكل تأكيدا على الرواية القائلة بأن الجبهة المعارضة أكثر اضطرابا مما كان يعتقد سابقا. ولكن إلى جانب هذا، لم تعد موسكو فقط ناظرة للاحداث.
وقد أتاحت الحرب في أوكرانيا والتطورات الأخيرة الفرصة لروسيا للتخطيط للعبة الخاصة بها بعناية أكبر على جبهات مختلفة. ومن ناحية أخرى، يتوسع التعاون الاستراتيجي بين روسيا والصين؛ ومن ناحية أخرى، يحاول الكرملين تغيير معادلة القوة على المستوى الدولي من خلال تعزيز علاقاته مع الدول النامية.
إن زيادة التفاعلات الاقتصادية مع دول مجموعة بريكس، وتوسيع التعاون الأمني مع الشركاء الإقليميين، والجهود الرامية إلى تقليل الاعتماد على النظام المالي الغربي، تعكس النهج الذي اتخذته موسكو تجاه التطورات العالمية.
وفي الوقت نفسه، تغيرت أيضًا ديناميكيات العلاقات بين روسيا وأوروبا. وقد اتخذت بعض الدول الأوروبية، بما في ذلك المجر وسلوفاكيا، موقفا أكثر اختلافا تجاه موسكو، وهي تقاوم سياسات بروكسل المناهضة لروسيا. ومن الممكن أن تشكل هذه الاختلافات نقطة ضعف في تماسك الجبهة الغربية وهو ما قد تستفيد منه روسيا.
عندما تطغى السياسة الداخلية على الدبلوماسية
ومن أهم النقاط التي كشفت عنها هذه الخلافات هو التداخل الشديد بين السياسة الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة. ويواجه ترامب وفانس حاليا تحديات سياسية محلية متوترة في حين يتعين عليهما التعامل مع تحديات دولية.
لقد أدت الانتخابات والمنافسات الحزبية والضغوط الداخلية إلى تأثر العديد من القرارات الدبلوماسية الكبرى بالمعادلات المحلية بدلاً من المصالح الاستراتيجية. وسوف يكون هذا الوضع صعباً ليس فقط بالنسبة للولايات المتحدة، بل أيضاً لحلفائها، مع تزايد صعوبة التنبؤ بالسياسة الخارجية الأميركية في مثل هذه الظروف.
إيران؛ طريق الحكمة والتعقل والاختيار الواعي للاستقلال
وفي ظل هذه الأجواء المضطربة، تدرس الجمهورية الإسلامية الإيرانية التطورات بعناية وحذر. إن الاضطرابات في السياسة الدولية تضر دائما بالاستقرار والأمن العالميين.
وعلى النقيض من العديد من الجهات الفاعلة المنخرطة في التوترات اللفظية والسياسات المتسرعة، فقد أكدت إيران دائمًا على المبادئ التي تركز على الاستقلال والاحترام المتبادل وتجنب الانخراط في خطابات غير بناءة.
ولكن استقلال إيران ليس حادثًا أو نتيجة لشروط مفروضة؛ بل كان ذلك خياراً واعياً، وقراراً استراتيجياً، ومبدأً ثابتاً في السياسة الخارجية للبلاد. وعكس بعض البلدان التي سعت إلى تحقيق أمنها واستقرارها من خلال الاعتماد على القوى الأجنبية، فقد أدركت إيران منذ فترة طويلة أن الاعتماد لن يؤدي إلا إلى عدم الاستقرار وفقدان السيادة الوطنية. إن الأمن الحقيقي لا يأتي من دعم القوى من خارج المنطقة، بل من القدرة المحلية، والاعتماد على القدرات الوطنية، والاعتماد على الشعب. ولهذا السبب اختارت إيران طريقا مختلفا؛ مسار لا يعتمد فيه مصير البلاد على قرارات الآخرين، وتتشكل السياسات على أساس المصالح الوطنية، وليس في ظل النصائح الأجنبية.
إن الحفاظ على الاستقلال له ثمن دفعته إيران دائمًا. منذ الأيام الأولى للثورة الإسلامية، كانت الضغوط الاقتصادية، والعقوبات، والتهديدات العسكرية، والحروب بالوكالة كلها مصممة لتحويل إيران إلى طرف تابع في النظام الدولي.
ولكن إيران، خلافا لتوقعات أعدائها، بقيت ثابتة وأظهرت أنها لن تستسلم للضغوط فحسب، بل ستواصل مسيرتها نحو التنمية والتقدم بالاعتماد على قدراتها الداخلية. لقد أصبح هذا الاختيار الواعي مبدأً: إيران لا تشتري أمنها، بل تبنيه. نحن لا نعتمد على الآخرين لدعمنا، بل ندافع عن أنفسنا بالاعتماد على معرفتنا الداخلية وقوتنا وقدراتنا.
لقد أثبت التاريخ أن البلدان التي بنت أمنها على الاعتماد على الآخرين قد وقعت ضحية للأولويات المتغيرة للقوى الداعمة لها في اللحظات الحرجة. ومن الممكن رؤية أمثلة على ذلك في جميع أنحاء العالم؛ حكومات وضعت سياساتها على أمل الحصول على ضمانات أمنية من القوى العظمى، ولكنها في نهاية المطاف تُركت وحدها في اللحظات الحرجة. لكن إيران تعلمت هذا الدرس التاريخي جيدا. الإستقلال ليس مجرد شعار، بل ضرورة حتمية.
وقد أدى هذا الرأي إلى عدم تأثر إيران بالوعود الأجنبية أو التهديدات من أعدائها في سياستها الخارجية. في حين ربط العديد من الجهات الفاعلة الدولية أمنها بعقد هشة ومؤقتة، اختارت إيران مسارا مختلفا: مسار يقوم على الاعتماد على القوة المحلية، والتقدم المستقل، والمقاومة للضغوط الخارجية. لا تحتاج إيران إلى أن تستمد شرعيتها من موافقة الآخرين، لأن شرعيتها تأتي من إرادة الأمة والسياسات المستقلة.
لقد اختارت إيران طريقها الخاص منذ سنوات، وهو طريق لا يعتمد على الدعم المشروط من القوى العالمية، ولا الوعود الدبلوماسية الهشة، ولا التهديدات الخارجية، كأساس لاتخاذ القرار. ما هو مهم بالنسبة لإيران هو الحفاظ على استقلالها، وتعزيز قدراتها الداخلية، والمضي على المسار المبني على المصالح الوطنية. وفي عالم تنخرط فيه القوى في نزاعات ومنافسات متقلبة كل يوم، أثبتت إيران، بثباتها في سياساتها، أن الاعتماد على الآخرين ليس خطراً فحسب، بل خطأ استراتيجياً أيضاً.
هذا هو الدرس الذي علمنا إياه التاريخ مراراً وتكراراً، ولم نحافظ عليه فحسب، بل سننقله أيضاً إلى الأجيال القادمة.
/انتهى/
تعليقك